هنا المستقبل – لكن الفرص الجديدة لم توزّع بالتساوي

Khaled Talhouni

|

29/4/2020

|

أفكارنا

|

أبصرت شركة “نواة كابيتال” النور خلال مؤتمر “ستيب” الذي انعقدت فعالياته في مطلع هذا العام. وبالرغم من عدم مرور وقت طويل على إطلاقنا لشركتنا، إلا أن جميع الأحداث التي يشهدها العالم اليوم جعلتنا نشعر بأنه قد مضى علينا دهر منذ ذلك الحين.

سيحكم التاريخ ما إذا كان اختيارنا هذا التوقيت لتأسيس شركتنا خطأ فادحًا أم خيارًا صائبًا كنا محظوظين للغاية في اتخاذه، وذلك بالطبع من دون أن نستهين أو نقلل من شأن ضحايا فيروس كوفيد-19 أو نستخف بالتداعيات الاقتصادية الكارثية التي ستخلفها هذه الجائحة قريبًا.

فمع التحلي بجرعة معقولة من التفاؤل بأن الأمور ستصب بمصلحتنا (خاصة وأننا الآن بصدد حشد التمويل من شركائنا المحدودين)، فأنا أميل بشدة إلى الاعتقاد بأن توقيتنا كان صائبًا، لا سيما وأننا على أعتاب مرحلة تاريخية ستحدث تغيير كبيرًا على تشكيل مجتمعاتنا واقتصاداتنا، كما وستسهم في تسريع وتيرة نمو الاقتصاد الرقمي على نطاق لم يسبق له مثيل.

أود هنا أن أطرح بعض الأفكار الأولية التي ناقشناها في “نواة كابيتال” فيما يتعلق بتداعيات الأزمة الحالية وكيف ستكون نهايتها.

الأزمات قد تكون تكوينية

بالرغم من عدم رغبتنا في أن نبدو عديمي الإحساس، لكن تجدر الإشارة إلى أننا قد رأينا مرارًا وتكرارًا بأن الابتكار والكفاءة يميلان إلى التسارع خلال فترات التراجع الاقتصادي، وهو ما يتمثّل إما على شكل نمو سريع للشركات المبتكرة أو ظهور شركات جديدة تهدف لمواجهة الوقائع السوقية الصعبة.

حيث أدى التراجع الاقتصادي الأخير عام 2008-2010 إلى نمو مذهل للشركات المبتكرة الجديدة التي أعادت تشكيل القطاعات التي تعمل فيها وذاع صيتها على الصعيد العالمي وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

الشركات التي تأسست ونجحت في جمع الأموال خلال مرحلة التمويل الأولي وجولة التمويل الأولى أ لدعم نموها أثناء فترة الركود الاقتصادي أو بعدها بفترة قصيرة.

الإسراع في تبني النهج الرقمي

إن التبعات الأولية للتوجيهات العالمية والإقليمية الحالية بخصوص العزل والاحتماء في المنازل، واضحة للغاية. فمع إغلاق متاجر التجزئة التقليدية في جميع أنحاء العالم تقريبًا، شهد الاقتصاد الرقمي إقبالًا غير مسبوق من ملايين الأفراد وخاصة ممن يعملون في الأسواق الناشئة. فالمستهلكين الذين لم يسبق لهم استخدام الإنترنت لشراء أدويتهم أو حاجياتهم من البقالة أو نادرًا ما كانوا يتفاعلون عبر منصات التجارة الإلكترونية بشكل عام، أصبحوا مضطرين لإتمام جميع مشترياتهم إلكترونيًا عبر شبكة الإنترنت.

ويشهد الاعتماد على طريقة الدفع عند الاستلام تراجعًا واضحًا خاصة في منطقتنا وذلك بسبب الأساليب الملتوية لسلاسل التوريد التي تهدف من خلالها إلى وقف سياسة الإرجاع والتبديل التي تعتمدها الشركات في حال اختيار المستهلك الدفع عند الاستلام كطريقة للتسديد. ونتيجة لذلك فبمجرد وقف تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، سيكون لدينا فئة مجتمعية جديدة تمامًا من الأفراد الذين سيصبحون أكثر اطمئنانًا في إجراء معاملاتهم عبر الإنترنت، ولا شك بأن “عامل الالتصاق” سيدفع أصحاب الأعمال إلى تعديل تجربة المستهلك /البيع بالتجزئة وتحسينها.

إذًا من الواضح بأن هذا هو تأثير الدرجة الأولى لتلك التوجيهات، لكن البراعة تكمن هنا في اكتساب فهم أفضل لما قد يعنيه هذا الأثر على المدى البعيد وللطريقة التي سيعيد فيها تشكيل القطاعات القائمة. وبعبارة أخرى، السر لإنشاء أعمال ناجحة خلال هذه المرحلة الجديدة التي يمر بها عالمنا اليوم هو إدراك كافة الآثار من الدرجتين الثانية والثالثة والطريقة التي ستنعكس بها على سلوكيات كل من رواد الأعمال والمستثمرين.

البيع بالتجزئة\التجارة الإلكترونية – ازدواجية خاطئة

من المؤكد بأن التوجه الجديد نحو الاقتصاد الرقمي سيلحق أضرارًا جسيمة ببعض الأعمال، ومن الطبيعي بأن أول المتضررين سيكونون تجار التجزئة التقليديين الذين تأخروا أو ترددوا من إنشاء قنوات بيع إلكترونية. لكن وبالرغم من ذلك فإن هذا الأمر سيؤدي إلى تحقيق النقاط التالية:

أولًا، سيشهد قطاع تجارة التجزئة متعددة القنوات نموًا واضحًا نتيجة لاتباعه آلية عمل تعتمد على دمج التجربتين التقليدية والإلكترونية معًا بدلاً من أن تكون القناة الإلكترونية مجرد امتدادٍ للمتجر الفعلي. وعمومًا، فإن عدد متاجر البيع بالتجزئة الفعلية سيقل بشكل كبير والخبرة فقط هي ما سيبقي بعض هذه المتاجر صامدة أمام هذا التحول.

ثانيًا، زيادة اهتمام المستهلكين بأسعار السلع في البيئة التي يخيم عليها الركود سيدفع المزيد منهم حسب اعتقادي إلى البحث عن منصات إلكترونية تمكنهم من المقارنة بين الأسعار بسهولة.

وبالمثل، فإن المنتجات الموجهة مباشرة للمستهلكين مثل منتجات العلامات التجارية الخاصة التي تتميز بقدرتها الكبيرة للتعديل حسب الرغبة، ستشهد ازدهارًا إذا استطاعت دخول الأسواق بهيكل تكلفة أكثر فعالية وذلك نظرًا لأنها ستستفيد بشكل أساسي من المنصات الإلكترونية وستستغني تمامًا عن تجارة البيع بالتجزئة التقليدية التي تتكبد تكاليف عالية بسببها (مثل واجهات المتاجر، إلخ).

وسيتحقق هذا الازدهار هذا على الأرجح في مختلف قطاعات السلع الاستهلاكية سريعة التداول والموضة والنظارات وغيرها. حيث سيقل اهتمام المستهلكين بشراء منتجات العلامات التجارية المعروفة وفي المقابل سيزداد اهتمامهم بالجودة والسعر.

ثالثًا، لطالما ركزت التجارة الإلكترونية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والأسواق الناشئة على الفئات الأعلى دخلًا، غير أن البيئة الراكدة دفعت ملايين المستهلكين الجدد للتوجه نحو الاقتصاد الرقمي ولهذا فقد باتت الفرصة ممتازة لإطلاق منصات تجارة إلكترونية تستهدف جميع مستويات الدخل.

تتطرق جميع النقاط السابقة لمسألة انهيار ازدواجية مجال البيع بالتجزئة وانقسام هذه التجارة ما بين الميدانيْن الإلكتروني والتقليدي كما وتتناول الجهود المبذولة لإنشاء تجربة شاملة يقل فيها الاعتماد على الهوية المادية التي تعرف بها التجارة التقليدية.

قطاع الطعام والشراب

شهد قطاع الطعام والشراب تغيرًا هامًا سيظل مستمرًا بكل تأكيد.

تتمثل التأثيرات الأولية من الدرجة الأولى لقطاع الطعام والشراب في الصعوبات التي ستواجه المحلات وخدمات التوصيل ومجمعي المنتجات (منصات الطعام التي تجمع الأصناف التي تقدمها محلات مختلفة). وحسب ما أعتقد فإن هذا سيؤدي على المدى البعيد إلى إعادة تشكيل تجربة تناول الطعام التي تحركها أزمة الاضطراب وسيبدأ قطاع الطعام والشراب التقليدي بالتوجه نحو زيادة مستوى الكفاءة مما سيسهم في التركيز على تعظيم الاستفادة من البنية التحتية المادية (المطاعم والفروع وما إلى ذلك). وبالتالي ستطلع الجهات الفاعلة إلى استخدام تلك الاستثمارات الثابتة لتوفير مصادر جديدة للعائدات في الوقت الذي يستمرون فيه بقيادة عجلة النمو.

سيتم تحديد الفرصة المتاحة في قطاع الطعام والشراب من خلال قدرة المشغلين على إنشاء علامات تجارية بسرعة وكفاءة وتحفيز نموها في العالمين الواقعي والإلكتروني. سيتم العمل على تسريع دورة حياة العلامات التجارية في هذا القطاع: حيث أن نمو العلامات التجارية الافتراضية سيسهم في زيادة الاستفادة من الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية للمطابخ السحابية في جميع أنحاء العالم والاستثمارات التي أقامتها شركات التجميع في قنوات اكتساب العملاء.

ستتصدر شركات العلامات التجارية الافتراضية قائمة الاستثمارات التي تستهدف البنية التحتية هذه كما أنها ستعمل على تطوير تجربة متكاملة ومبتكرة لتناول الطعام والشراب تمتاز بقدرتها الكبيرة على التخصيص حسب الطلب، وتتضمن مجموعة من العلامات التجارية التي قد تظهر أو تحتفي بشكل مفاجئ، كما أنها مصممة خصيصًا للمستهلك النهائي الذي سيتمكن من الحصول على المنتجات من خلال خدمة التوصيل مقابل أسعار مناسبة.

وكما هو الحال بالنسبة لقطاع البيع بالتجزئة لن يكون من المستغرب أن تشهد التجارة الذي سيتم فيها دمج الأسلوبين التقليدي والإلكتروني معًا، انحدارًا واضحًا في عدد المتاجر الفعلية التابعة لشركات الطعام والشراب بشكل كبير. ما سيجعل الشركات تستغل مساحاتها المادية لمضاعفة نشاطاتها بما في ذلك قدرة المطبخ التابع للعلامات التجارية الافتراضية، كما ستقوم بتأجير هذه القدرة لزيادة عائد الاستثمار على المساحة.

وبالمثل، فإن العلامات التجارية الجديدة التي يتم تجربتها على أرض الواقع قد تظهر أو تختفي سريعًا بناءً على نجاحها في هذه التجربة هذا بالإضافة إلى خضوعها لتحليلات دقيقة. نستنتج بذلك أن شبكة الإنترنت قد أصبحت الوجهة المفضلة للمستثمرين والشركات الذين يسعون إلى زيادة استثماراتهم في العلامات التجارية.

التوظيف البديل

ستؤدي رغبة أصحاب العمل والشركات في خفض التكاليف المترتبة عليهم على المدى القصير إلى اختلال كبير في سوق العمالة بسبب الزيادة الكبيرة في أعداد الأيدي العاملة التي تم تسريحها. أما التأثير الثاني والذي يظهر خلال هذه الأزمة بشكل أوضح من فترات الانكماش السابقة، فيتمثل في اعتماد جزء كبير من هذا العمل على الأسلوب التعاقدي أو الوظائف المؤقتة عند التعيين نتيجة إلى سعي الشركات إلى تلبية متطلباتها من اليد العاملة عبر المنصات الرقمية التي تسهل العمل المستقل.

على الرغم من عدم انتشار هذا التأثير على نطاق واسع في منطقتنا أو في الأسواق الناشئة خلال فترة الركود الأخيرة التي مررنا بها، إلا أننا رأيناه في الأسواق الأكثر تقدمًا. ونظرًا للتغييرات التنظيمية الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول مجلس التعاون الخليجي، فإننا سنشهد بلا شك ظهور منصات بديلة تساعد على ربط الوظائف المستقلة بالعمال وخاصة العاملين في المكاتب العامة والإدارة (في التصميم أو الترجمة أو البرمجة أو التسويق، إلخ).

علاوة على ذلك، سنرى تطور طرق جديدة ومبتكرة يسعى الأفراد من خلالها إلى الاستفادة من الأصول التي يمتلكونها (مثل تطبيق Airbnb الذي يمكنك من تحقيق دخل عن طريق تأجير منزلك أو Uber الذي يساعدك على تحقيق أرباح من سيارتك). وأنا أعتقد بأننا سنرى مزيدًا من التطورات في هذا الاتجاه غير أنها لا تزال غامضة إلى الآن.

توطين سلاسل التوريد هو التوجّه الجديد.

أظهرت هذه الأزمة أن سلاسل التوريد العالمية يمكن أن تتعطل بكل بسهولة. ولهذا السبب ستسعى الشركات والحكومات إلى الاعتماد على الصناعة المحلية في توفير جزء من احتياجاتها إلى جانب العمل على إعادة تشكيل الاقتصادات والأسواق. وسيكون من المثير للاهتمام أن نتمكن من رؤية طبيعة الشركات التي ستنضم إلى قطاع الصناعة والتجارة عبر سلسلة التوريد وخاصة في مجالي الزراعة الرقمية والرعاية الصحية.

قد نعيش أوقاتًا مظلمة خلال الفترة القادمة، ولكننا سنحظى بفرصة لتحقيق الازدهار من جديد

تعد هذه المرحلة لحظة استثنائية يسعى فيها كبار رواد الأعمال إلى معالجة العديد من الاختلالات السوقية التي نراها حاليًا والتي سيظهر أثر جزء آخر منها خلال الأسابيع القادمة، ونحن نأمل أن تسفر هذه الجهود عن أساليب جديدة للتبادل وأن يكون لها دور في تعزيز قيمة اقتصادنا مما سيساعدنا على الارتقاء بمجتمعاتنا والتقدم بهم إلى الأمام.

* ويليام جيبسون، كاتب خيال و كاتب مقالات.

خالد هو الشريك الإداري في نواة كابيتال.